سورة النحل - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)}
{أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سبحانه وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُنَزِّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لآ إله إِلآ أَنَاْ فاتقون}.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن معرفة تفسير هذه الآية مرتبة على سؤالات ثلاثة:
فالسؤال الأول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخوفهم بعذاب الدنيا تارة وهو القتل والاستيلاء عليهم كما حصل في يوم بدر، وتارة بعذاب يوم القيامة، وهو الذي يحصل عند قيام الساعة، ثم إن القوم لما لم يشاهدوا شيئاً من ذلك احتجوا بذلك على تكذيبه وطلبوا منه الإتيان بذلك العذاب وقالوا له ائتنا به.
وروي أنه لما نزل قوله تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر} [القمر: 1] قال الكفار فيما بينهم إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى ننظر ما هو كائن، فلما تأخرت قالوا ما نرى شيئاً مما تخوفنا به، فنزل قوله: {اقترب لِلنَّاسِ حسابهم} [الأنبياء: 1] فأشفقوا وانتظروا يومها فلما امتدت الأيام قالوا: يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوفنا به فنزل قوله: {أتى أَمْرُ الله} فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رؤوسهم فنزل قوله: {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} والحاصل أنه عليه السلام لما أكثر من تهديدهم بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة ولم يروا شيئاً نسبوه إلى الكذب.
فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} وفي تقرير هذا الجواب وجهان:
الوجه الأول: أنه وإن لم يأت ذلك العذاب إلا أنه كان واجب الوقوع والشيء إذا كان بهذه الحالة والصفة فإنه يقال في الكلام المعتاد أنه قد أتى ووقع إجراء لما يجب وقوعه بعد ذلك مجرى الواقع يقال لمن طلب الإغاثة وقرب حصولها: قد جاءك الغوث فلا تجزع.
والوجه الثاني: وهو أن يقال أن أمر الله بذلك وحكمه به قد أتى وحصل ووقع، فأما المحكوم به فإنما لم يقع، لأنه تعالى حكم بوقوعه في وقت معين فقبل مجيء ذلك الوقت لا يخرج إلى الوجود والحاصل كأنه قيل: أمر الله وحكمه بنزول العذاب قد حصل ووجد من الأزل إلى الأبد فصح قولنا أتى أمر الله، إلا أن المحكوم به والمأمور به إنما لم يحصل، لأنه تعالى خصص حصوله بوقت معين فلا تستعجلوه ولا تطلبوا حصوله قبل حضور ذلك الوقت.
السؤال الثاني: قالت الكفار: هب أنا سلمنا لك يا محمد صحة ما تقوله من أنه تعالى حكم بإنزال العذاب علينا إما في الدنيا وإما في الآخرة، إلا أنا نعبد هذه الأصنام فإنها شفعاؤنا عند الله فهي تشفع لنا عنده فنتخلص من هذا العذاب المحكوم به بسبب شفاعة هذه الأصنام.
فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فنزه نفسه عن شركة الشركاء والأضداد، والأنداد وأن يكون لأحد من الأرواح والأجسام أن يشفع عنده إلا بإذنه و{مَا} في قوله: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} يجوز أن تكون مصدرية، والتقدير: سبحانه وتعالى عن إشراكهم ويجوز أن تكون بمعنى الذي، أي سبحانه وتعالى عن هذه الأصنام التي جعلوها شركاء لله، لأنها جمادات خسيسة، فأي مناسبة بينها وبين أدون الموجودات فضلاً عن أن يحكم بكونها شركاء لمدبر الأرض والسموات.
السؤال الثالث: هب أنه تعالى قضى على بعض عبيده بالسراء وعلى آخرين بالضراء ولكن كيف يمكنك أن تعرف هذه الأسرار التي لا يعلمها إلا الله، وكيف صرت بحيث تعرف أسرار الله وأحكامه في ملكه وملكوته؟
فأجاب الله تعالى عنه بقوله: {يُنَزّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فاتقون} وتقرير هذا الجواب أنه تعالى ينزل الملائكة على من يشاء من عبيده ويأمر ذلك العبد بأن يبلغ إلى سائر الخلق أن إله العالم واحد كلفهم بمعرفة التوحيد والعبادة وبين أنهم إن فعلوا ذلك فازوا بخيري الدنيا والآخرة، وإن تمردوا وقعوا في شر الدنيا والآخرة، فبهذا الطريق صار مخصوصاً بهذه المعارف من دون سائر الخلق، وظهر بهذا الترتيب الذي لخصناه أن هذه الآيات منتظمة على أحسن الوجوه والله أعلم. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي: (ينزل) بالياء وكسر الزاي وتشديدها، والملائكة بالنصب، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {يُنَزّل} بضم الياء وكسر الزاي وتخفيفها، والأول من التفعيل، والثاني من الأفعال، وهما لغتان:
المسألة الثانية: روي عن عطاء عن ابن عباس قال: يريد بالملائكة جبريل وحده.
قال الواحدي: وتسمية الواحد باسم الجمع إذا كان ذلك الواحد رئيساً مقدماً جائز كقوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ} [نوح: 1] {وَإِنَا أنزلناه} [يوسف: 2]. {وإِنَا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر} [الحجر: 9] وفي حق الناس كقوله: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس} [آل عمران: 173] وفيه قول آخر سيأتي شرحه بعد ذلك وقوله: {بالروح مِنْ أَمْرِهِ} فيه قولان:
القول الأول: أن المراد من الروح الوحي وهو كلام الله ونظيره قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] وقوله: {يُلْقِى الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 15] قال أهل التحقيق: الجسد موات كثيف مظلم، فإذا اتصل به الروح صار حياً لطيفاً نورانياً. فظهرت آثار النور في الحواس الخمس، ثم الروح أيضاً ظلمانية جاهلة، فإذا اتصل العقل بها صارت مشرقة نورانية، كما قال تعالى؛ {والله أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أمهاتكم لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة} [النحل: 78] ثم العقل أيضاً ليس بكامل النورانية والصفاء والإشراق حتى يستكمل بمعرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله ومعرفة أحوال عالم الأرواح والأجساد، وعالم الدنيا والآخرة، ثم إن هذه المعارف الشريفة الإلهية لا تكمل ولا تصفو إلا بنور الوحي والقرآن.
إذا عرفت هذا فنقول: القرآن والوحي به تكمل المعارف الإلهية، والمكاشفات الربانية وهذه المعارف بها يشرق العقل ويصفو ويكمل، والعقل به يكمل جوهر الروح، والروح به يكمل حال الجسد، وعند هذا يظهر أن الروح الأصلي الحقيقي هو الوحي والقرآن، لأن به يحصل الخلاص من رقدة الجهالة، ونوم الغفلة، وبه يحصل الانتقال من حضيض البهيمية إلى أوج الملكية، فظهر أن إطلاق لفظ الروح على الوحي في غاية المناسبة والمشاكلة، ومما يقوى ذلك أنه تعالى أطلق لفظ الروح على جبريل عليه السلام في قوله: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين * على قَلْبِكَ} [الشعراء: 193، 194] وعلى عيسى عليه السلام في قوله: {رَّوْحِ الله} [يوسف: 87] وإنما حسن هذا الإطلاق، لأنه حصل بسبب وجودهما حياة القلب وهي الهداية والمعارف، فلما حسن إطلاق اسم الروح عليهما لهذا المعنى، فلأن يحسن إطلاق لفظ الروح على الوحي والتنزيل كان ذلك أولى.
والقول الثاني: في هذه الآية وهو قول أبي عبيدة إن الروح هاهنا جبريل عليه السلام، والباء في قوله: {بالروح} بمعنى مع كقولهم خرج فلان بثيابه، أي مع ثيابه وركب الأمير بسلاحه أي مع سلاحه، فيكون المعنى: ينزل الملائكة مع الروح وهو جبريل، والأول أقرب، وتقرير هذا الوجه: أنه سبحانه وتعالى ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم جبريل وحده، بل في أكثر الأحوال كان ينزل مع جبريل أفواجاً من الملائكة، ألا ترى أن في يوم بدر وفي كثير من الغزوات كان ينزل مع جبريل عليه السلام أقوام من الملائكة، وكان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تارة ملك الجبال. وتارة ملك البحار. وتارة رضوان. وتارة غيرهم. وقوله: {مِنْ أَمْرِهِ} يعني أن ذلك التنزيل والنزول لا يكون إلا بأمر الله تعالى، ونظيره قوله تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ} [مريم: 64] وقوله: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27] وقوله: {وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 28] وقوله: {يخافون رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] وقوله: {لاَّ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] فكل هذه الآيات دالة على أنهم لا يقدمون على عمل من الأعمال إلا بأمر الله تعالى وإذنه، وقوله: {على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} يريد الأنبياء الذين خصهم الله تعالى برسالته، وقوله: {أَنْ أَنْذِرُواْ} قال الزجاج: {أن} بدل من الروح والمعنى: ينزل الملائكة بأن أنذروا، أي أعلموا الخلائق أنه لا إله إلا أنا، والإنذار هو الإعلام مع التخويف.
المسألة الثانية: في الآية فوائد: الفائدة الأولى: أن وصول الوحي من الله تعالى إلى الأنبياء لا يكون إلا بواسطة الملائكة، ومما يقوى ذلك أنه تعالى قال في آخر سورة البقرة: {والمؤمنون كُلٌّ ءامَنَ بالله وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285] فبدأ بذكر الله سبحانه ثم أتبعه بذكر الملائكة، لأنهم هم الذين يتلقون الوحي من الله ابتداء من غير واسطة، وذلك الوحي هو الكتب، ثم إن الملائكة يوصلون ذلك الوحي إلى الأنبياء فلا جرم كان الترتيب الصحيح هو الابتداء بذكر الله تعالى، ثم بذكر الملائكة، ثم بذكر الكتب وفي الدرجة الرابعة بذكر الرسل.
إذا عرفت هذا فنقول: إذا أوحى الله تعالى إلى الملك فعلم ذلك الملك بأن ذلك الوحي وحي الله علم ضروري أو استدلالي. وبتقدير أن يكون استدلالياً فكيف الطريق إليه؟ وأيضاً الملك إذا بلغ ذلك الوحي إلى الرسول فعلم الرسول بكونه ملكاً صادقاً لا شيطاناً رجيماً ضروري أو استدلالي فإن كان استدلالياً فكيف الطريق إليه؟ فهذه مقامات ضيقة، وتمام العلم بها لا يحصل إلا بالبحث عن حقيقة الملك وكيفية وحي الله إليه، وكيفية تبليغ الملك ذلك الوحي إلى الرسول.
فأما إذا أجرينا هذه الأمور على الكلمات المألوفة صعب المرام وزال النظام، وذلك لأن آيات القرآن ناطقة بأن هذا الوحي والتنزيل إنما حصل من الملائكة أو نقول: هب أن آيات القرآن لم تدل على ذلك إلا أن احتمال كون الأمر كذلك قائم في بديهة العقل.
وإذا عرفت هذا فنقول: لا نعلم كون جبريل عليه السلام صادقاً معصوماً عن الكذب والتلبيس إلا بالدلائل السمعية، وصحة الدلائل السمعية موقوفة على أن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق، وصدقه يتوقف على أن هذا القرآن معجز من قبل الله تعالى، لا من قبل شيطان خبيث، والعلم بذلك يتوقف على العلم بأن جبريل صادق محق مبرأ عن التلبيس وعن أفعال الشيطان، وحينئذ يلزم الدور، فهذا مقام صعب.
أما إذا عرفنا حقيقة النبوة وعرفنا حقيقة الوحي زالت هذه الشبهة بالكلية، والله أعلم.
المسألة الرابعة: هذه الآية تدل على أن الروح المشار إليها بقوله: {يُنَزِّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ} ليس إلا لمجرد قوله: {لآ إله إلآ أَنَاْ فاتقون} وهذا كلام حق، لأن مراتب السعادات البشرية أربعة: أولها: النفسانية.
وثانيها: البدنية، وفي المرتبة الثالثة: الصفات البدنية التي لا تكون من اللوازم، وفي المرتبة الرابعة: الأمور المنفصلة عن البدن.
أما المرتبة الأولى: وهي الكمالات النفسانية، فاعلم أن النفس لها قوتان: إحداهما: استعدادها لقبول صور الموجودات من عالم الغيب، وهذه القوة هي القوة المسماة بالقوة النظرية، وسعادة هذه القوة في حصول المعارف. وأشرف المعارف وأجلها معرفة أنه لا إله إلا هو، وإليه الإشارة بقوله: {أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لآ إله إِلآ أَنَاْ} والقوة الثانية للنفس: استعدادها للتصرف في أجسام هذا العالم، وهذه القوة هي القوة المسماة بالقوة العملية، وسعادة هذه القوة في الإتيان بالأعمال الصالحة، وأشرف الأعمال الصالحة هو عبودية الله تعالى، وإليه الإشارة بقوله: {فاتقون} ولما كانت القوة النظرية أشرف من القوة العملية لا جرم قدم الله تعالى كمالات القوة النظرية، وهي قوله: {لآ إله إِلآ أَنَاْ} على كمالات القوة العملية وهي قوله: {فاتقون}.
وأما المرتبة الثانية: وهي السعادات البدنية فهي أيضاً قسمان: الصحة الجسدانية، وكمالات القوى الحيوانية، أعني القوى السبع عشرة البدنية.
وأما المرتبة الثالثة: وهي السعادات المتعلقة بالصفات العرضية البدنية، فهي أيضاً قسمان: سعادة الأصول والفروع، أعني كمال حال الآباء. وكمال حال الأولاد.
وأما المرتبة الرابعة: وهي أخس المراتب فهي السعادات الحاصلة بسبب الأمور المنفصلة وهي المال والجاه، فثبت أن أشرف مراتب السعادات هي الأحوال النفسانية، وهي محصورة في كمالات القوة النظرية والعملية، فلهذا السبب ذكر الله هاهنا أعلى حال هاتين القوتين فقال: {أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لآ إله إِلآ أَنَاْ فاتقون}.


{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3)}
اعلم أنه تعالى لما بين فيما سبق أن معرفة الحق لذاته، وهي المراد من قوله: {أَنَّهُ لآ إله إلآ أَنَاْ} ومعرفة الخير لأجل العمل به وهي المراد من قوله: {فاتقون} [النحل: 2] روح الأرواح، ومطلع السعادات، ومنبع الخيرات والكرامات، أتبعه بذكر الدلائل على وجود الصانع الإله تعالى وكمال قدرته وحكمته.
واعلم أنا بينا أن دلائل الإلهيات، إما التمسك بطريقة الإمكان في الذوات أو في الصفات. أو التمسك بطريقة الحدوث في الذوات أو في الصفات أو بمجموع الإمكان والحدوث في الذوات أو الصفات، فهذه طرق ستة، والطريق المذكور في كتب الله تعالى المنزلة، هو التمسك بطريقة حدوث الصفات وتغيرات الأحوال. ثم هذا الطريق يقع على وجهين:
أحدهما: أن يتمسك بالأظهر فالأظهر مترقياً إلى الأخفى فالأخفى، وهذا الطريق هو المذكور في أول سورة البقرة، فإنه تعالى قال: {اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ} فجعل تعالى تغير أحوال نفس كل واحد دليلاً على احتياجه إلى الخالق. ثم ذكر عقيبه الاستدلال بأحوال الآباء والأمهات، وإليه الإشارة بقوله: {والذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] ثم ذكر عقيبه الاستدلال بأحوال الأرض، وهي قوله: {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً} لأن الأرض أقرب إلينا من السماء، ثم ذكر في المرتبة الرابعة قوله: {والسماء بِنَاء} ثم ذكر في المرتبة الخامسة الأحوال المتولدة من تركيب السماء بالأرض، فقال: {وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ} [البقرة: 22].
الثاني من الدلائل القرآنية؛ أن يحتج الله تعالى بالأشرف فالأشرف نازلاً إلى الأدون فالأدون، وهذا الطريق هو المذكور في هذه السورة، وذلك لأنه تعالى ابتدأ في الاحتجاج على وجود الإله المختار بذكر الأجرام العالية الفلكية، ثم ثنى بذكر الاستدلال بأحوال الإنسان، ثم ثلث بذكر الاستدلال بأحوال الحيوان، ثم ربع بذكر الاستدلال بأحوال النبات، ثم خمس بذكر الاستدلال بأحوال العناصر الأربعة، وهذا الترتيب في غاية الحسن.
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول:
النوع الأول: من الدلائل المذكورة على وجود الإله الحكيم الاستدلال بأحوال السموات والأرض فقال: {خُلِقَ * السموات والأرض بالحق تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السموات والأرض} [الأنعام: 1] إن لفظ الخلق من كم وجه يدل على الاحتياج إلى الخالق الحكيم، ولا بأس بأن نعيد تلك الوجوه هاهنا فنقول: الخلق عبارة عن التقدير بمقدار مخصوص، وهذا المعنى حاصل في السموات من وجوه:
الأول: أن كل جسم متناه فجسم السماء متناه، وكل ما كان متناهياً في الحجم والقدر، كان اختصاصه بذلك القدر المعين دون الأزيد والأنقص امراً جائزاً، وكل جائز فلابد له من مقدر ومخصص، وكل ما كان مفتقراً إلى الغير فهو محدث.
الثاني: وهو أن الحركة الأزلية ممتنعة، لأن الحركة تقتضي المسبوقية بالغير، والأزل ينافيه فالجمع بين الحركة والأزل محال.
إذا ثبت هذا فنقول: إما أن يقال أن الأجرام والأجسام كانت معدومة في الأزل، ثم حدثت أو يقال إنها وإن كانت موجودة في الأزل إلا أنها كانت ساكنة ثم تحركت. وعلى التقديرين فلحركتها أول، فحدوث الحركة من ذلك المبدأ دون ما قبله أو ما بعده خلق وتقدير، فوجب افتقاره إلى مقدر وخالق ومخصص له.
الثالث: أن جسم الفلك مركب من أجزاء بعضها حصلت في عمق جرم الفلك وبعضها في سطحه، والذي حصل في العمق كان يعقل حصوله في السطح وبالعكس، وإذا ثبت هذا كان اختصاص كل جزء بموضعه المعين أمراً جائزاً فيفتقر إلى المخصص والمقدر، وبقية الوجوه مذكورة في أول سورة الأنعام.
واعلم أنه سبحانه لما احتج بالخلق والتقدير على حدوث السموات والأرض قال بعده: {تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} والمراد أن القائلين بقدم السموات والأرض كأنهم أثبتوا لله شريكاً في كونه قديماً أزلياً فنزه نفسه عن ذلك، وبين أنه لا قديم إلا هو، وبهذا البيان ظهر أن الفائدة المطلوبة من قوله: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] في أول السورة غير الفائدة المطلوبة من ذكر هذه الكلمة هاهنا، لأن المطلوب هناك إبطال قول من يقول: إن الأصنام تشفع للكفار في دفع العقاب عنهم، والمقصود هاهنا إبطال قول من يقول: الأجسام قديمة، والسموات والأرض أزلية، فنزه الله سبحانه نفسه عن أن يشاركه غيره في الأزلية والقدم، والله أعلم.


{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)}
اعلم أن أشرف الأجسام بعد الأفلاك والكواكب هو الإنسان، فلما ذكر الله تعالى الاستدلال على وجود الإله الحكيم بأجرام الأفلاك، أتبعه بذكر الاستدلال على هذا المطلوب بالإنسان.
واعلم أن الإنسان مركب من بدن ونفس، فقوله تعالى: {خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ} اشارة إلى الاستدلال ببدنه على وجود الصانع الحكيم، وقوله: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} إشارة إلى الاستدلال بأحوال نفسه على وجود الصانع الحكيم.
أما الطريق الأول: فتقريره أن نقول: لا شك أن النطفة جسم متشابه الأجزاء بحسب الحس والمشاهدة، إلا أن من الأطباء من يقول إنه مختلف الأجزاء في الحقيقة، وذلك لأنه إنما يتولد من فضلة الهضم الرابع، فإن الغذاء يحصل له في المعدة هضم أول وفي الكبد هضم ثان. وفي العروق هضم ثالث.
وعند وصوله إلى جواهر الأعضاء هضم رابع. ففي هذا الوقت وصل بعض أجزاء الغذاء إلى العظم وظهر فيه أثر من الطبيعة العظيمة، وكذا القول في اللحم والعصب والعروق وغيرها ثم عند استيلاء الحرارة على البدن عند هيجان الشهوة يحصل ذوبان من جملة الأعضاء، وذلك هو النطفة، وعلى هذا التقدير تكون النطفة جسماً مختلف الأجزاء والطبائع.
إذا عرفت هذا فنقول: النطفة في نفسها إما أن تكون جسماً متشابه الأجزاء في الطبيعة والماهية، أو مختلف الأجزاء فيها، فإن كان الحق هو الأول لم يجز أن يكون المقتضى لتولد البدن منها هو الطبيعة الحاصلة في جوهر النطفة ودم الطمث، لأن الطبيعة تأثيرها بالذات والإيجاب لا بالتدبير والاختيار. والقوة الطبيعية إذا عملت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن يكون فعلها هو الكرة، وعلى هذا الحرف عولوا في قولهم البسائط يجب أن تكون أشكالها الطبيعية في الكرة فلو كان المقتضى لتولد الحيوان من النطفة هو الطبيعة، لوجب أن يكون شكلها الكرة. وحيث لم يكن الأمر كذلك، علمنا أن المقتضى لحدوث الأبدان الحيوانية ليس هو الطبيعة، بل فاعل مختار، وهو يخلق بالحكمة والتدبير والاختيار.
وأما القسم الثاني: وهو أن يقال: النطفة جسم مركب من أجزاء مختلفة في الطبيعة والماهية فنقول: بتقدير أن يكون الأمر كذلك، فإنه يجب أن يكون تولد البدن منها بتدبير فاعل مختار حكيم وبيانه من وجوه:
الوجه الأول: أن النطفة رطوبة سريعة الاستحالة، وإذا كان كذلك كانت الأجزاء الموجودة فيها لا تحفظ الوضع والنسبة، فالجزء الذي هو مادة الدماغ يمكن حصوله في الأسفل، والجزء الذي هو مادة القلب قد يحصل في الفوق، وإذا كان الأمر كذلك وجب أن لا تكون أعضاء الحيوان على هذا الترتيب المعين أمراً دائماً ولا أكثرياً، وحيث كان الأمر كذلك، علمنا أن حدوث هذه الأعضاء على هذا الترتيب الخاص ليس إلا بتدبيرالفاعل المختار الحكيم.
والوجه الثاني: أن النطفة بتقدير أنها جسم مركب من أجزاء مختلفة الطبائع، إلا أنه يجب أن ينتهي تحليل تركيبها إلى أجزاء يكون كل واحد منها في نفسه جسماً بسيطاً، وإذا كان الأمر كذلك، فلو كان المدبر لها قوة طبيعية لكان كل واحد من تلك البسائط يجب أن يكون شكله هو الكرة فكان يلزم أن يكون الحيوان على شكل كرات مضمومة بعضها إلى بعض، وحيث لم يكن الأمر كذلك، علمنا أن مدبر أبدان الحيوانات ليس هي الطبائع ولا تأثيرات الأنجم والأفلاك، لأن تلك التأثيرات متشابهة، فعلمنا أن مدبر أبدان الحيوانات فاعل مختار حكيم، وهو المطلوب، هذا هو الاستدلال بأبدان الحيوانات على وجود الإله المختار. وهو المراد من قوله سبحانه وتعالى: {خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ} وأما الاستدلال على وجود الصانع المختار الحكيم بأحوال النفس الإنسانية فهو المراد من قوله: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في بيان وجه الاستدلال وتقريره: أن النفوس الإنسانية في أول الفطرة أقل فهماً وذكاء وفطنة من نفوس سائر الحيوانات، ألا ترى أن ولد الدجاجة كما يخرج من قشر البيضة يميز بين العدو والصديق فيهرب من الهرة ويلتجئ إلى الأم، ويميز بين الغذاء الذي يوافقه والغذاء الذي لا يوافقه وأما ولد الإنسان فإنه حال انفصاله عن بطن الأم، لا يميز ألبتة بين العدو والصديق ولا بين الضار والنافع، فظهر أن الإنسان في أول الحدوث أنقص حالاً وأقل فطنة من سائر الحيوانات ثم إن الإنسان بعد كبره يقوى عقله ويعظم فهمه ويصير بحيث يقوى على مساحة السموات والأرض ويقوى على معرفة ذات الله وصفاته وعلى معرفة أصناف المخلوقات من الأرواح والأجسام والفلكيات والعنصريات ويقوى على إيراد الشبهات القوية في دين الله تعالى والخصومات الشديدة في كل المطالب فانتقال نفس الإنسان من تلك البلاد المفرطة إلى هذه الكياسة المفرطة لابد وأن يكون بتدبير إله مختار حكيم ينقل الأرواح من نقصانها إلى كمالاتها ومن جهالاتها إلى معارفها بحسب الحكمة والاختيار، فهذا هو المراد من قوله سبحانه وتعالى: {خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ}.
وإذا عرفت هذه الدقيقة أمكنك التنبيه لوجوه كثيرة:
المسألة الثانية: أنه تعالى إنما يخلق الإنسان من النطفة بواسطة تغيرات كثيرة مذكورة في القرآن العزيز منها قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ * ثُمَّ جعلناه نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} [المؤمنون: 12، 13] إلا أنه تعالى اختصر هاهنا لأجل أن ذلك الاستقصاء مذكور في سائر الآيات، وقوله؛ {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} فيه بحثان:
البحث الأول: قال الواحدي: الخصيم بمعنى المخاصم، قال أهل اللغة: خصيمك الذي يخاصمك وفعيل بمعنى مفاعل معروف كالنسيب بمعنى المناسب، والعشير بمعنى المعاشر، والأكيل والشريب ويجوز أن يكون خصيم فاعلاً من خصم يخصم بمعنى اختصم، ومنه قراءة حمزة: {تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ} [يس: 49].
البحث الثاني: لقوله: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} وجهان:
أحدهما: فإذا هو منطبق مجادل عن نفسه، منازع للخصوم بعد أن كان نطفة قذرة، وجماداً لا حس له ولا حركة، والمقصود منه: أن الانتقال من تلك الحالة الخسيسة إلى هذه الحالة العالية الشريفة لا يحصل إلا بتدبير مدبر حكيم عليم.
والثاني: فإذا هو خصيم لربه، منكر على خالقه، قائل: {مَن يُحييِ العظام وَهِىَ رَمِيمٌ} [يس: 78] والغرض منه وصف الإنسان بالإفراط في الوقاحة والجهل، والتمادي في كفران النعمة، والوجه الأول أوفق، لأن هذه الآيات مذكورة لتقرير وجه الاستدلال على وجود الصانع الحكيم، لا لتقرير وقاحة الناس وتماديهم في الكفر والكفران.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8